النهار الاخبارية - وكالات
بعد نحو عشرة أيام من تعيين وزير الخارجية الصيني الجديد، تشين غانغ في منصبه، قام الرجل سريعاً بجولة في إفريقيا زار خلالها خمس دول، في مؤشر على أن المرحلة القادمة سوف تشهد احتدام التنافس الصيني الأمريكي على إفريقيا.
بدت جولة وزير الخارجية الصيني وكأنها أول جولة في الرد الصيني على القمة الأمريكية الإفريقية التي تعهدت خلالها واشنطن بمنح القارة السمراء 55 مليار دولار، كمساعدات.
وكانت الصين قد أقالت وزيرها السابق بعد أسبوعين من القمة الأمريكية الإفريقية التي استضاف فيها الرئيس جو بايدن القادة الأفارقة في واشنطن، في إطار مساعي إدارته الحثيثة لمواجهة نفوذ الصين وروسيا في القارة الغنية بالمواد الخام.
الوزير الصيني الجديد اختار إثيوبيا لأنها مقر الاتحاد الإفريقي، ومصر لاحتضانها مقر الجامعة العربية (التي قام بزيارة لها) في رسالة لتعزيز العلاقات مع إفريقيا والعالم العربي.
كما زار تشين أنغولا باعتبارها أكبر شريك تجاري إفريقي للصين وإحدى أكبر دول القارة إنتاجاً للنفط، وهي الدولة صاحبة النصيب الأكبر من القروض الصينية.
كما زار الغابون وبنين من دول "إيكواس" المطلة على خليج غينيا الاستراتيجي في تجارة الصين البحرية على الساحل الأطلسي لإفريقيا.
الذئب الصيني المقاتل يبدأ حربه من إفريقيا
وتظهر جولة تشين غانغ، سعي بكين لتأكيد حضورها في القارة السمراء لمواجهة رغبة أمريكية صريحة لتقويض نفوذها بإفريقيا.
غانغ، الملقب بـ"الذئب المقاتل" كان سفيراً لبكين لدى واشنطن قبل تعيينه وزيراً للخارجية في 30 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وسبق له أن دافع عن سياسة بلاده في تقديم قروض للدول الإفريقية، ورفض اعتبارها "فخاً" للهيمنة على القارة، ويرى أنها "منفعة" متبادلة.
فالمهمة الرئيسية للذئب المقاتل أن يحافظ على إفريقيا في صف الصين، في ظل الضغوط الأمريكية على الدول الإفريقية لتقليص تعاونها مع بكين، حسب تقرير لوكالة الأناضول.
الصين الغائب الحاضر في القمة الأمريكية الإفريقية
نقلت القمة الأمريكية الإفريقية التنافس الصيني الأمريكي على إفريقيا لمرحلة جديدة.
فالقمة التي عقدت منتصف ديسمبر/كانون الأول 2022، وشارك فيها نحو 49 زعيماً ورئيس حكومة إفريقياً، حذرت فيها واشنطن من أن نفوذ الصين وروسيا في القارة "يمكن أن يكون مزعزعاً للاستقرار"، وتعهدت بتخصيص 55 مليار دولار لإفريقيا على مدى ثلاث سنوات.
وبعد أسبوعين من تلك القمة أقيل وزير الخارجية الصيني وانغ يي، وعين بدلاً منه تشين غانغ، ما يعكس إرادة صينية للقتال من أجل الحفاظ على نفوذها في إفريقيا أمام مساعي الولايات المتحدة لنسف ما بنته بكين طيلة سنوات بهدوء وصبر.
وتأتي زيارة الوزير الجديد في سياق الصراع الدولي على إفريقيا، خاصة أن دوائر عسكرية أمريكية ترجح أن تسعى بكين لضم تايوان في 2027، بل من الممكن أن يكون قبل هذا التاريخ.
ويمثل استقطاب 54 دولة إفريقية لأي من القوتين الاقتصاديتين الأكبر في العالم مسألة حيوية في أي مواجهة دبلوماسية مقبلة، سواء في الأمم المتحدة أو أي هيئات عالمية وإقليمية تكون إفريقيا طرفاً فيها.
الوزير الصيني زار الزوايا الأربع للقارة
وحرص الوزير تشين على ألا تقتصر جولته الإفريقية – بين 9 إلى 16 يناير/كانون الثاني الجاري – على منطقة واحدة، بل شملت زيارته زوايا وأطراف القارة الأربعة، من مصر الدولة العربية الأكبر الواقعة في الشمال الشرقي إلى أنغولا في الجنوب الغربي، ومن إثيوبيا في الشرق إلى الغابون وبنين في الغرب.
واختيار هذه البلدان الخمسة في قائمة الزيارة تم انتقاؤه بعناية خاصة بالنسبة لإثيوبيا ومصر، فالأولى تحتضن مقر الاتحاد الإفريقي الذي سيزوره الوزير الصيني، والثانية تحتضن مقر الجامعة العربية التي زارها شينغ، حيث عقد مؤتمراً صحفياً مع أمينها العام.
وهذه رسالة صينية بأنها راغبة في مواصلة تعزيز العلاقات مع الدول الإفريقية والعربية.
بينما تم اختيار أنغولا لأنها من أكبر الدول الإفريقية المصدرة للنفط، بل تصدرت القائمة لفترة عندما تراجع إنتاج نيجيريا النفطي.
وتعتبر أنغولا أكبر شريك تجاري للصين في القارة، بأكثر من 17.6 مليار دولار من المبادلات التجارية، ما يجعلها ذات أهمية اقتصادية بالغة.
التنافس الصيني الأمريكي على إفريقيا
وزير الخارجية الصيني الجديد، تشين غانغ مع مع رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي محمد في أديس أبابا/رويترز
بينما الغابون التي تصدر كميات لا بأس بها من البترول، فتمتلك أحد أعلى معدلات الدخل الفردي في القارة، وتطل على خليج غينيا الاستراتيجي، وعضو في المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس).
أما بنين البلد الصغير المطل على خليج غينيا والمجاور لنيجيريا من جهة الشرق ولدول الساحل من جهة الشمال وعضو في إيكواس، فحرص تشين عند استقباله من طرف الرئيس باتريس تالون، على أن يعرب له عن أمله في أن "توفر بنين السلامة للمؤسسات الصينية والموظفين الصينيين هناك، وتصون حقوقهم ومصالحهم المشروعة".
وهذه إشارة دبلوماسية إلى أن المؤسسات الصينية وموظفيها تواجه بعض الصعوبات في هذا البلد الإفريقي، الواقع تحت النفوذ الفرنسي.
وباستثناء إثيوبيا، فإن جميع الدول الخمس لها إطلالات بحرية، وتقع على طرق التجارة الصينية مع إفريقيا على غرار البحر الأحمر وقناة السويس والبحر المتوسط وخليج غينيا والمحيط الأطلسي.
وهو مؤشر آخر على رغبة الصين في توسيع تجارتها مع القارة الإفريقية، والتي تتجاوز 254 مليار دولار في 2021، وتفوق أربع مرات تجارة الولايات المتحدة مع القارة السمراء.
واشنطن تحاول تلطيخ سمعة الصين بسبب الديون
الديون الخارجية لدول إفريقيا تضاعفت 5 مرات في 20 عاماً إلى 696 مليار دولار تستحوذ الصين على 12% منها.
القروض الصينية للحكومات الإفريقية تراجعت من ذروتها البالغة 28.4 مليار دولار في عام 2016 إلى 1.9 مليار دولار في 2020.
وقال باحثون في معهد "تشاتام هاوس" (Chatham House)، إن القروض الصينية الضخمة المقدمة إلى إفريقيا، خلقت معضلة بالنسبة إلى الصين، حيث ستعاني لاسترداد أموالها، في وقت تسعى فيه للمحافظة على صورتها كصديقة للدول النامية.
تنتقد الولايات المتحدة والدول الغربية الإقراض الصيني لإفريقيا، وتقول إنه مبهم ومصمَّم للاستحواذ على الأصول الإفريقية كضمانات للقروض. إلا أن الباحثين في معهد "تشاتام"، لا يتفقون مع هذه النظرة.
وقال معهد "تشاتام هاوس" إن المؤسسات الصينية خفّضت قروضها إلى إفريقيا في الأعوام الأخيرة، مدفوعة بالقلق من عجز العديد من الدول عن السداد.
وقال الباحثون: "بعيداً عن الاستراتيجية المعقّدة التي يتحدث عنها الغرب ويقول إن الصين تهدف للاستيلاء على الأصول الإفريقية، ربما يكون الإقراض الصيني المسرف قد خلق في مراحله المبكرة فخ ديون للصين نفسها، ما أدخلها في علاقات متشابكة مع شركاء أفارقة صارمين وحازمين بشكل متزايد".
على سبيل المثال، تُعدّ الصين مقرضاً رئيسياً لزامبيا التي تخلّفت عن سداد ديونها. كما قدّمت قروضاً لدول أخرى تواجه صعوبات في الوفاء بالتزامات ديونها، من بينها أنغولا وإثيوبيا وكينيا وجمهورية الكونغو.
الدول الإفريقية الأكثر مديونية للصين وفقاً لتقرير لـ"بلومبيرغ" نشر في نهاية عام 2022.
– أنغولا – 42.6 مليار دولار.
– إثيوبيا – 13.7 مليار دولار.
– زامبيا – 9.8 مليار دولار.
– كينيا – 9.2 مليار دولار.
تعرّضت الصين لانتقادات بسبب ضعف مشاركتها الملموسة في الجهود الدولية لتخفيض أعباء ديون الدول النامية. وقالت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، مرات عدة، إن بكين أصبحت العقبة الأكبر أمام تحقيق تقدم في هذا الاتجاه.
وتسببت التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا، في تقويض قدرة العديد من الدول الإفريقية على خدمة ديونها السيادية.
طبقاً لمعايير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تتجه القارة نحو أزمة في سداد الديون، مع وجود 22 دولة من أصل 54 معرضة لما يُعرف بـ"ضائقة الديون".
لماذا تصاعد التنافس الصيني الأمريكي على إفريقيا؟
ولكن رغم أزمة الديون المحتملة، فإن القارة ازدادت أهميتها بالنسبة للقوى العظمى العالمية بفضل احتياطات المعادن والمواد الخام التي تدخل في صناعة البطاريات، وخاصة جمهورية الكونغو الديمقراطية الشاسعة المساحة، وهو المجال الذي تحظى فيه بكين باليد العليا سواء استخراج الخامات أو إنتاج البطاريات، فيما تسعى الولايات المتحدة وأوروبا لتخفيف الاعتماد على الصين في هذا المجال، ونقل سلاسل التوريد لأراضيها مع توجه العالم الحثيث نحو السيارات الكهربائية.
وازدادت أهمية القارة بعد الحرب الأوكرانية بفضل احتياطاتها النفطية وكذلك الغاز الذي بدأ العالم ينتبه لمكامنه الضخمة قليلة الاستغلال بالقارة مثل موزمبيق، إضافة لمناطق استخراجه التقليدية في الجزائر ونيجيريا ومصر.
منطقة خالية من المخاوف التقليدية من الصين التي تنتشر في أوروبا وآسيا
كما تحتل القارة أهمية خاصة لبكين بالتحديد في ظل جهودها لتجنب عملية احتواء وحصار أمريكية تدريجية.
فأوروبا هي حليفة واشنطن التقليدية وباتت القارة العجوز أكثر حاجة لها بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وأصبح قادة القارة المتحفظون على نهج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد الصين أكثر تجاوباً مع نهج بايدن الأهدأ ولكن الأكثر تأثيراً وحزماً وشمولية، وهم أكثر استعداداً للتعاون مع واشنطن في تقييد نقل التكنولوجيا لبكين وفرض قيود على الشركات الصينية في مشروعات البنية التحتية الحساسة أو شراء أصول غربية.
وآسيا المجاورة للصين مليئة إما بحلفاء أمريكا المقربين مثل تايوان واليابان وكوريا الجنوبية وكذلك أستراليا، وهي دول قلقة من بكين حتى دون تحريض أمريكي، ولكن هذا التحريض بلا شك زاد من توجسها من بكين.
كما تضم القارة الآسيوية مجموعة كبيرة من الدول المعجبة ببكين والساعية لإرضائها ولكن الخائفة منها بحكم القرب الجغرافي والتماس البحري مثل إندونيسيا والفلبين وماليزيا وبنغلاديش أو دولة مثل الهند هي عدو فطري لبكين.
وأمريكا الجنوبية رغم تطلعها الإيجابي لبكين فهي حديقة خلفية لأمريكا وامتداد حضاري متمرد قليلاً على أوروبا بحكم الجذور الثقافية والدينية، وهو امتداد يظهر أحياناً في زعامات شعبوية يمينية معادية لبكين مثل الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو.
ولذا تبقى إفريقيا قارة لا يوجد بها أي عداء فطري لبكين، بل لديها توجس تاريخي من الغرب ينفّر الأفارقة من المستعمرين السابقين، ولا يأبه كثيراً لحديثه عن التجسس الصيني، لأنهم القادة الأفارقة يعلمون أن كل أسرارهم في واشنطن وباريس منذ عقود، ويشعرون بقدر النفاق الغربي عندما يطالبونهم بالابتعاد عن بكين بسبب انتهاكاتها الحقوقية واستبدادها السياسي وهم لا يزالون يعانون من ندوب جرائم الاستعمار الغربي.
ويظهر الأمر واضحاً في جنوب إفريقيا الدولة الأكثر تقدماً في إفريقيا والبلد الديمقراطي الذي يحظى باحترام كبير في الغرب بفضل نضاله ضد العنصرية، ولكن لا يخفي رغبته في توطيد علاقته مع بكين رغم تحفظات الغرب.
وترتبط الصين مع إفريقيا عبر شبكة مصالح متنوعة يعود بعضها لأسباب اقتصادية وأخرى لأن حكام القارة خاصة المستبدين وشبه المستبدين منهم يفضلون الدبلوماسية الصينية التي لا تلقي عليهم عظات حقوقية وديمقراطية مثل الغرب.
حتى الديمقراطيون من حكام القارة، لا يؤثر خطاب الغرب الأخلاقي فيهم كثيراً وهم يعلمون أنه خطاب شكلاني لا يصمد كثيراً أمام الاختبارات مثلما يحدث في فلسطين وحدث مراراً في إفريقيا.
بالنسبة للصين، يوفر الموقف الإيجابي الإفريقي، مساحة تكاد لا تتوافر لها في مكان آخر إلا في العالم العربي وآسيا الوسطى، مساحة أخيرة لا تقيد فيها شركات التكنولوجيا الخاصة بها ولا تعتبر نظام بايدو لتتبع المواقع عدواً؛ لأنه لن يكشف أسراراً أكثر مما سيكشفه نظام GBS الأمريكي.
كما لا يرون استغلال شركات التعدين الصينية أسوأ كثيراً من نظيرتها الغربية.
هل تستفيد إفريقيا أم تتضرر من هذا التنافس؟
وحتى الآن يبدو التنافس الصيني الأمريكي على إفريقيا مفيداً للقارة، طالما كان تنافساً على تقديم شروط اقتصادية أفضل، وليس تنافساً على التخريب والتدمير وإسقاط الأنظمة، حتى لو كانت الديمقراطية مثلما فعل التنافس الغربي السوفييتي في القارة خلال الحرب الباردة.
بالطبع أحد عيوب التنافس الصيني الأمريكي على القارة، أنه قد يوفر متنفساً للحكام المستبدين والعدوانيين، فبكين لا تأبه لاستبدادهم، والغرب قد يكون يتجاهل هذا الاستبداد، بل قد يكافئه مقابل الابتعاد عن بكين أو على الأقل عدم الاقتراب منها أكثر مما ينبغي.
يبدو الأثر السلبي للتنافس الصيني الأمريكي واضحاً في حالة إثيوبيا التي تتنمر على شركائها في النيل مصر والسودان، وتمنع مياه نهري جوبا وشبيلي عن الصومال، وترتكب المذابح في إقليم التيغراي، ولكن الصين لا ترفض فقط نصحها، بل تتحفظ على الوساطة بينها وبين خصومها.
أما واشنطن، فيبدو واضحاً في ردود أفعالها الباهتة على مذابح نظام رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ضد التيغراي وتنصله من نتائج الوساطة الأمريكية في أزمة سد النهضة، أنها تفضل إرضاءه مهما تمادى حتى لا يقترب أكثر من بكين.
فعام 2023، سيكون سنة التنافس الصيني الأمريكي على إفريقيا، ومن الممكن أن يستفيد الأفارقة من هذا التنافس من خلال زيادة المنح والمساعدات والقروض، لكنه إذا احتدم أكثر فمن شأنه أن يهدد استقرار القارة الهش.