النهار الاخبارية - وكالات
رصد تقرير أمريكي 4 أسباب للتضخم وجنون الأسعار، أبرزها التغير المناخي وحرب أوكرانيا، فمتى قد تنتهي الأزمة الخانقة التي يكتوي المواطنون حول العالم بنارها؟
وعلى الرغم من أن الركود الاقتصادي أمر حتمي، في إطار ما يعرف بدورة الأعمال، فالركود يتبع الانتعاش الاقتصادي، والعكس، أو ما يمكن وصفه بأنه سُنة الحياة أو طبيعة الأمور، لكن توقيت حدوث الركود ومدته الزمنية ومدى شدته أمور متغيرة وتتعلق بشكل مباشر بأسباب الركود نفسها.
وغالباً ما يحدث الركود لسبب كبير ومفاجئ مثل الزلازل أو البراكين أو أزمة صحية كبرى كانتشار وباء (كورونا على سبيل المثال) أو اندلاع حرب كبرى (حرب أوكرانيا) أو أسباب أخرى من هذا القبيل، وربما يكون السبب تراكمياً وغير مفاجئ مثل التراكم الهائل في الإقراض الثانوي كما حدث في الأزمة المالية عام 2008.
أما التضخم فيعني ارتفاع الأسعار على نطاق واسع ولفترات زمنية ممتدة، وكلمة السر هنا "على نطاق واسع" وكذلك "فترات زمنية ممتدة"، أي إن الارتفاع الطارئ وغير الممتد لسعر سلعة أو سلع ما لا يسمى تضخماً.
السبب الأول: التغير المناخي
موقع The Intercept الأمريكي تناول نُذُر التضخم الأربعة في تحليل لجون شوارتز، الكاتب المختص بشؤون الاقتصاد، تناول ورقة بحثية أعدَّها توماس فيرغسون وسيرفاس ستورم من "معهد الفكر الاقتصادي الجديد"، في مسألة التضخم دون أي تحزب أو شطوط أو ما شابه.
وتتسم الورقة البحثية بميزة التركيز على عالم الواقع، أي ما يحدث بالفعل، فما الذي تسبب في الارتفاع الكبير في التضخم على مدار السنوات القليلة الماضية؟ وإحدى الخلاصات المزعجة لفيرغسون وستورم هي أنَّ جزءاً من التضخم الأخير يمكن أن يُعزى إلى التغيُّر المناخي.
وهذه أخبار بالغة السوء، فأولاً، هذه مشكلة ليست فقط ستستمر، بل ستتفاقم أيضاً. وثانياً، من السهل أن نتصوَّر مستقبلاً تعتمد فيه الأحزاب اليمينية في مختلف أنحاء العالم على نوبات التضخم الحادة لتكون مسوِّغاً لتقلُّدها السلطة، وحينئذ ستمنع أي تحرك بشأن ظاهرة الاحتباس الحراري، وبالتالي تدهور حالة التضخم، وهكذا دواليك في حلقة مفرغة.
ومصطلح التغير المناخي معنيٌّ بوصف التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية للأرض. وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مسببةَ فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة وربما في الأماكن نفسها، ما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه، والنتيجة باختصار هي نقص الغذاء.
وبعد أن أصبحت المعلومات والحقائق الخاصة بالتغير المناخي ومسبباته متاحة للجميع وليست محل جدال، يتضح أن الدول الغنية، بمصانعها ومشاريعها الضخمة، تتحمل الجانب الأكبر من المسؤولية عن تغير المناخ، بينما يدفع الفقراء حول العالم الثمن.
التغير المناخي يهدد العالم
إذ تعتبر الصين الدولةَ الأولى عالمياً من حيث الانبعاثات الكربونية المسؤولة عن ظاهرة الاحتباس الحراري، تليها الولايات المتحدة في المرتبة الثانية. ويمثل البلدانِ معاً نحو 40% من إجمالي التلوث بالكربون الذي يؤدي إلى التغير المناخي وتوابعه الكارثية على الطقس حول العالم، ويليهما الاتحاد الأوروبي ثم الهند وروسيا.
ورغم الوعود المتكررة من جانب بكين وواشنطن، وغيرهما من الدول الكبرى، بالعمل على تخفيض تلك الانبعاثات الكربونية وغيرها مثل غاز الميثان، فإن تلك الدول الصناعية لا تلتزم بتطبيق تلك الوعود في نهاية المطاف، لأسباب متنوعة، أبرزها التنافس الاقتصادي والاعتماد على الوقود الأحفوري من نفط وغاز وفحم أيضاً، إلى جانب التعقيدات السياسية التي يخشاها قادة تلك الدول وأبرزها الصدام مع الشركات الكبرى.
هل تسببت إدارة بايدن في التضخم؟
يتلخص الجواب عن سؤال التضخم الحالي فيما إذا كان حدث نتيجة صدمة طلب (زيادة مفاجئة في الطلب) أو صدمة عرض (انخفاض مفاجئ في العرض)، أو مزيج ما من كليهما.
والرواية التي تتبلور حالياً في صفحات الرأي الأمريكية هي أنَّ المسألة كانت صدمة طلب، تسبَّبت فيها الإدارة الديمقراطية برئاسة جو بايدن. وعلى وجه التحديد أنَّ "قانون خطة الإنقاذ الأمريكية" الذي صدر في مارس/آذار 2021، قد تسبَّب ببساطة في جعل المواطنين العاديين أغنى من اللازم، ومن ثم أطلقت يدهم في الإنفاق باندفاع متهور، بحسب تقرير موقع The Intercept.
لاري سامرز، وزير الخزانة في إدارة الرئيس بيل كلينتون ومدير المجلس الاقتصادي الوطني بإدارة أوباما، كتب هذا التحذير عند صياغة قانون خطة الإنقاذ: "في الأوقات العادية، كانت أي أسرة مكونة من أربعة أشخاص دخلها قبل الضريبة ألف دولار أسبوعياً، ستحصل على 22 ألف دولار على مدار الأشهر الستة المقبلة. لكن بموجب مقترح بايدن، في حال جرى تسريح عائل الأسرة، على الأرجح سيتجاوز دخل الأسرة على مدار الأشهر الستة المقبلة 30 ألف دولار".
ونبرة "هل يمكن أن تتخيل" هنا جديرة بالملاحظة. فهل يمكن أن تتخيَّل حصول الأسر العادية على 30 ألف دولار بعد الضريبة في ستة أشهر فقط؟ من الواضح أنَّ كسب الأشخاص العاديين أموالاً أكثر قليلاً يتعارض مع قوانين الاقتصاد، وبالتالي هو أمر يستوجب العقوبة من حرَّاس التضخم.
فالرد الوحيد على مشكلة أوجدتها الحكومة من خلال منحها الناس أموالاً أكثر من اللازم هو أن يستخدم بنك الاحتياطي الفيدرالي العصا الغليظة مع الاقتصاد حتى يرتفع معدل البطالة، وبالتالي استعادة المال من كل الممرضين والإطفائيين الذين اقتربوا من حياة الرخاء أكثر من اللازم.
لكن فيرغسون وستورم يختلفان مع هذا الرأي بشدة. فهما يشيران إلى أنَّ "90% تقريباً من الإنفاق الإغاثي التراكمي المرتبط بالجائحة" حدث بحلول يونيو/حزيران 2021. وفي الواقع، بحلول الربع الثاني من عام 2021، كان مجموع سياسات الضرائب والإنفاق على كل المستويات الحكومية يقلل الطلب من الاقتصاد. ومع ذلك، لم يرتفع التضخم حتى النصف الثاني من 2021، ولم يبدأ فعلاً حتى عام 2022.
بالتالي، لا يبدو أنَّ المساعدة الحكومية للمواطنين العاديين قد أدَّت إلى صدمة طلب، بحيث حصل الجميع على أموالهم وبدأوا ينفقونها على سلع وخدمات لا يستطيع الاقتصاد إنتاجها.
كيف تسبب الأغنياء في الأزمة الاقتصادية؟
لكنَّ فيرغسون وستورم يجادلان بأنَّه كان هنالك في الواقع صدمة طلب، لكن ليس طلباً من الطبقة العاملة. إذ لاحظا أنَّ إجمالي الثروة الشخصية في الولايات المتحدة قد ارتفع من الربع الأول من عام 2020 وحتى الربع الأول من عام 2022 بواقع 26.1 تريليون دولار، معظمها بسبب الارتفاعات الكبيرة في سوق المال.
تعود 40% من هذه الزيادة إلى أغنى 1%، وتذهب 33.4% أخرى إلى تالي أغني 9%، ما يعني أنَّ قرابة ثلاثة أرباع الزيادة ذهبت إلى أغنى 10% من الأمريكيين. في الحقيقة، لم يستطع الاقتصاد إنتاج ما يكفي من عرض لما أراد الأغنياء شراءه.
ثُمَّ أتى فيرغسون وستورم على ذكر تفاصيل 4 صدمات عرض، أي مشكلات كانت ستؤدي إلى التضخم حتى لو لم تقدم الحكومة أي مساعدات للمواطنين العاديين. كانت إحداها ارتفاع أسعار الطاقة، الذي نجم إلى حدٍّ كبير عن الحرب في أوكرانيا.
كانت الثانية هوامش الربح الأكبر للشركات. وكانت الثالثة تقلُّص القوة العاملة بسبب جائحة كوفيد 19، لأنَّها تسببت في وفاة أو عجز بعض الأمريكيين، أو التقاعد من أجل تجنُّبها، أو اضطرتهم إلى الاستقالة من أجل الاعتناء بأطفالهم.
وأخيراً، ارتفاع أسعار الواردات، الذي تسبَّبت به، من بين عوامل أخرى، "حرب أوكرانيا والكوارث المناخية". وبالنسبة للمناخ، يشيران إلى تقارير صدرت عن شركة Swiss Re، وهي واحدة من أكبر شركات إعادة التأمين في العالم، أي الشركات التي تقدم التأمين لشركات التأمين. وهي تمثل آخر دعامة مالية في حال وقوع كوارث، وبالتالي فإنَّها شديدة القلق بشأن تكاليف التغيُّر المناخي.
تُقدِّر شركة Swiss Re إجمالي الخسائر الاقتصادية نتيجة الكوارث الطبيعية في عامي 2021 و2022 بـ292 و260 مليار دولار على التوالي، وهو أعلى من متوسط 207 مليارات دولار خلال السنوات العشر السابقة. وهنالك حالياً "اتجاه لمتوسط زيادة سنوية بـ5 إلى 7% على مدار العقد الماضي" في الخسائر التأمينية. وتُحذِّر الشركة من أنَّ "التغيُّر المناخي يُشكِّل أكبر خطر طويل المدى على الاقتصاد العالمي".
ويوضح فيرغسون وستورم أنَّه في حين أنَّهما "يتوخيان الحذر بشأن استقراء الدراسات الأخيرة التي تشير إلى معدلات مرتفعة للغاية من الخسائر نتيجة أسباب طبيعية خلال سنوات الجائحة… فإنَّ درجات الحرارة المرتفعة للغاية في عام 2022 على وجه الخصوص تمثل تحذيراً".
وينتهي تفحُّصهما العقلاني للماضي باقتراحات منطقية لما يتعين فعله مستقبلاً. وهما يتحدثان بشؤم عن عالم يواجه "مستقبلاً من صدمات العرض المتشعبة"، موضحَين أنَّ "العالم الجديد من صدمات العرض على الأرجح سيبقى لأجل غير مسمى".
وهذا يعني أنَّنا بحاجة إلى التركيز على الواقع الكامن وراء الخطط المالية بدلاً من الخطط المالية نفسها. فعلى سبيل المثال، يجب أن يكون هناك مسعى متجدد للقضاء على كوفيد 19 والاستعداد للجوائح المستقبلية.
ولأنَّ الأمراض والحروب ستزدهر في عالم أشد حرارة، يتعين علينا بكل تأكيد أن نبذل كل ما بوسعنا لوقف التغيُّر المناخي. بعبارة أخرى، إذا كان فيرغسون وستورم على حق، فستتطلب السيطرة على التضخم من الحكومات في الولايات المتحدة وغيرها أن تكون بارعة ومتطورة ومستعدة لتجاهل نخبها، وهو أمر بالغ الصعوبة. لكن إذا ما أردنا تجنُّب المعاناة الهائلة وسياسات رد الفعل، فسيكون ذلك هو المطلوب. وسيتعين أن تكون الخطوة الأولى هي تجاهل المواطنين العاديين لنخبهم وتحرِّي هذه الموضوعات المعقدة بأنفسهم.
الخلاصة هنا هي أن أبرز أسباب التضخم هي الحرب في أوكرانيا والتغير المناخي والسياسات التي تخدم الأغنياء، وهو ما يشير إلى أن المعاناة الحالية من جنون الأسعار لا تبدو لها نهاية وشيكة.