الأحد 24 تشرين الثاني 2024

أميركا تعيد صياغة سياستها تجاه سوريا.. وموقف دول الخليج عامل حاسم

حلت الذكرى العاشرة للثورة السورية بعد شهرين فقط من تولي الرئيس "جو بايدن" رئاسة الولايات المتحدة، وقد تركت الإدارة الأمريكية الجديدة هذه الذكرى تمر بشكل هادئ نسبيا من خلال انضمام وزير الخارجية "أنتوني بلينكن" لبيان مع نظرائه البريطاني والفرنسي والألماني والإيطالي.

ولم يتم تعيين مبعوث أمريكي إلى سوريا ليحل محل السفير "جيمس جيفري"، فيما تجنبت الإدارة الأمريكية حتى وقت قريب التصريحات العلنية بشأن سوريا. وفي نهاية مارس/آذار الماضي، ألقى "بلينكن" أول تصريحات علنية في مجلس الأمن ركزت على الوضع الإنساني وضرورة أن يستعيد مجلس الأمن سلطته على المعابر الحدودية في شمال غربي وشمال شرقي سوريا  للحصول على مساعدة الأمم المتحدة.

وباستثناء انتقاد نظام الرئيس السوري "بشار الأسد" لاستهدافه المستشفيات والإمدادات الإنسانية، لم يقدم "بلينكن" سوى القليل من الإشارات المحددة حول النوايا السياسية الأوسع تجاه سوريا. ومن المثير للاهتمام أنه، خلال حملة "بايدن" الرئاسية، أشار "بلينكن" إلى النفوذ الذي تتمتع به الولايات المتحدة في سوريا، حيث سلط الضوء على الوجود العسكري شمال شرقي البلاد والقدرة الفريدة للإدارة الأمريكية على حشد الآخرين "في الوقت المناسب" لإعادة إعمار سوريا.

ويظل ضبط النفس العام منطقيا بالنظر إلى أن الإدارة الأمريكية ما تزال تحاول أن تتحرى الطريق الذي ينبغي على الولايات المتحدة أن تسلكه في سياستها المستقبلية تجاه سوريا. وسوف يحتاج فريق "بايدن" إلى مراجعة أهداف السياسة التي اتبعتها الولايات المتحدة على مدى الأعوام العديدة الماضية، وتقييم نقاط النفوذ الأمريكية، والنظر في أفضل السبل التي يمكن أن تعمل بها مع حلفائها.
وسعت السياسة الأمريكية تجاه سوريا خلال إدارة الرئيس السابق "دونالد ترامب" إلى هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية" وتحقيق حل سياسي للصراع السوري، ومنع نظام "الأسد" من استخدام الأسلحة الكيماوية، وإجبار القوات الإيرانية ووكلائها على الانسحاب.

وحقق التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة تقدما كبيرا في الحرب ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" في سوريا، حيث تكبد التنظيم سلسلة من الانتكاسات العسكرية الكارثية لمراكز القيادة والتحكم وقاداتها وقدرتها على شن أي هجوم عدا عن الهجمات المحلية العرضية إذا سنحت الفرصة. 

وبالنسبة لمنع استخدام الأسلحة الكيميائية، يبدو أن التحذيرات الأمريكية والعمل العسكري كان لهما تأثير كبير على حسابات نظام "الأسد" في هذا الصدد. ولم يكن هناك الكثير من النجاح في السعي إلى حل سياسي لسوريا، باستثناء بعض التطورات العملية ذات التأثير المحدود التي يشرف عليها مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسوريا "جير بيدرسن"، بينما لم يتم إحراز أي تقدم في طرد القوات الإيرانية من سوريا.

وسعت الولايات المتحدة إلى تحقيق هذه الأهداف اعتمادا على عدة أشكال من النفوذ، الوجود العسكري الأمريكي الصغير في شمال شرقي سوريا الذي ركز على محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية"، وقيادة تحالف دولي مكون من 83 عضوا ضد التنظيم، والذي خدم أهدافًا أخرى في سوريا، وعدة طبقات من العقوبات الاقتصادية التي تستهدف شخصيات وكيانات النظام، والدبلوماسية الأمريكية في الأمم المتحدة ومع الدول الرئيسية.

وكذلك استخدمت الولايات المتحدة بعض نفوذها للعرقلة، حيث أوقفت أو أبطأت تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع نظام "الأسد"، كما منعت عقوباتها الاقتصادية تدفق مساعدات إعادة الإعمار التي يحتاجها النظام السوري بشدة.

ويبدو أن السياسة الأمريكية الحالية ستستمر على الأقل على المدى القصير والمتوسط، ما يمنح فريق "بايدن" الوقت الكافي لوضع وتنفيذ مقاربته في سوريا. ويعتبر الوجود العسكري الأمريكي محدود جدا حيث يبلغ ما بين 500 إلى 1000 جندي، وفقا للإحصائيات العامة، مما يسهل نسبيًا الدعم اللوجستي وتبريره على الصعيد السياسي.

وتستمر هذه القوة في المشاركة بفعالية مع "قوات سوريا الديمقراطية" المحلية ذات القدرات العالية للحفاظ على الضغط القوي على الخلايا النائمة للتنظيم. ويعمل الوجود الأمريكي على ردع الأطراف التي يمكن أن تتدخل، ويمنح "قوات سوريا الدينقراطية" ساحة العمليات، التي تحتاجها للسيطرة على ثلث الأراضي السورية، والتي تشمل مناطق النفط الاستراتيجي والموارد الكهرومائية، بالإضافة لمنطقة زراعية غنية، وهي الأصول الرئيسية التي يستميت نظام الأسد من أجل استعادتها.

واتخذت "قوات سوريا الديمقراطية" خطوات إضافية لتحقيق الاستقرار في مناطق الشمال الشرقي، ما ساعد على خلق مساحة من الوقت لفريق "بايدن" لاتخاذ قرار بشأن سياسته. واحتجزت "قوات سوريا الديمقراطية" نحو 10 آلاف مقاتل من تنظيم "الدولة الإسلامية" كانوا قد استسلموا في ساحة المعركة، وعملت مع المنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية لتأمين الغذاء والخدمات الطبية لما يقرب من 60 ألف فرد من أسر هؤلاء المقاتلين المحتجزين وغيرهم ممن قُتلوا في المعركة.


وأنشأت "قوات سوريا الديمقراطية"، مع المنظمات المدنية التابعة لها، عشرات المجالس المدنية في شمال شرقي سوريا لضمان الإدارة المحلية وتوفير الخدمات الأساسية، والعمل عن كثب مع المنظمات غير الحكومية التي تمولها الولايات المتحدة ودول التحالف الأخرى، بما في ذلك الإمارات والسعودية.

وكانت هناك شكاوى بشأن بعض الإجراءات الأمنية لـ"قوات سوريا الديمقراطية"، ولكن بالرغم من العيوب، فقد حافظ الحكم المحلي الذي وفرته "قوات سوريا الديمقراطية" على استقرار المنطقة الشمالية الشرقية منذ سقوط تنظيم "الدولة الإسلامية".

وفي غضون ذلك، تواصل الولايات المتحدة دعم جهود مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا. ودعا "بيدرسن" اللجنة الدستورية إلى الانعقاد في جنيف 5 مرات على مدار العامين الماضيين، كما التقى مرارا وتكرارا مع مسؤولين من دول رئيسية والنظام السوري للسعي، دون نجاح يذكر، إلى حل سياسي في سوريا.

وفي تصريحات علنية مؤخرا، أشار "بيدرسن" إلى فرصة سانحة لحل الأزمة السورية، لكنه حذر من أنها تستدعي مطالب واقعية ودقيقة من قبل أصحاب المصلحة الرئيسيين لتعزيز ما وصفه بالهدوء الهش في سوريا، منذ وقف إطلاق النار عام 2020 في الشمال الغربي السوري.

وبينما يعيد فريق "بايدن" تقييم السياسة التي ورثها في سوريا، سيحتاج إلى تحديد ما إذا كانت الولايات المتحدة لديها النفوذ لتحقيق الأهداف التي حددها صانعو السياسة مسبقا. وأصر المتشككون في تلك السياسة على أن الولايات المتحدة تفتقر إلى مثل هذا النفوذ وتحتاج إلى نهج جديد، ويرى هؤلاء أن العقوبات الاقتصادية لم تحقق سوى مكاسب وهمية في طريق التوصل إلى حل سياسي ولكنها تسببت في معاناة حقيقية وواسعة النطاق للشعب السوري. ويصر المؤيدون، بمن فيهم كبار المسؤولين الأمريكيين السابقين، على أن العقوبات والعزلة مجدية ولكنها تحتاج إلى مزيد من الوقت لإحداث تأثير حاسم.

وفي غضون ذلك، كما قال "بيدرسن"، فإن الشعب السوري "من بين أكبر الضحايا" في هذا القرن، ويشعر بأنه محاصر في صراع لا نهاية له. حتى مع احتمال أن تكون إدارة "بايدن" متحمسة لاتباع سياسة تتجنب فيها الإشارة للتنازل عن مسألة تحميل نظام "الأسد" مسئولية جرائم الحرب الجسيمة التي ارتكبها، ستشعر الإدارة أيضًا بضرورة الاهتمام والتعامل بواقعية مع الكارثة الإنسانية في سوريا.

وقبل الانهيار الاقتصادي لعام 2020 والذي أدى إلى تدهور الأوضاع بشكل كبير، كان ما يقدر بنحو 40% من السوريين يعيشون في فقر مدقع، وفقًا لإحصائيات اللجنة الاقتصادية لغربي آسيا (الإسكوا) التابعة للأمم المتحدة وجامعة "سانت أندروز" (مقابل أقل من 1% في عام 2010) ويقدر برنامج الغذاء العالمي أن 12.4 مليون شخص يعانون حاليا من انعدام الأمن الغذائي، مقابل 6.5 مليون في عام 2020، بالرغم من مليارات الدولارات من المساعدات الإنسانية التي يتم التعهد بها سنويا لسوريا.

والمفتاح في هذا الصدد ليس توفير المساعدة الإنسانية، وإن كانت مهمة، ولكن إجراء تقييم واقعي حول التكاليف الإنسانية وآفاق النجاح مع سياسة تعتمد بشكل كبير على تطبيق طويل الأمد للعقوبات الاقتصادية.
وبينما تدرس الإدارة الأمريكية خياراتها، ستحتاج أيضا إلى التفكير بعناية في مقدار الدعم الذي يمكنها بناءه في المنطقة. ويشير الحلفاء الرئيسيون في المنطقة أحيانًا إلى الحاجة لنهج جديد تجاه سوريا، في حين يتقدمون بحذر شديد، لتفادي التعارض مع التصريحات المتشددة المناهضة لـ"الأسد"، والصادرة عن كبار المسؤولين الأمريكيين في الإدارة السابقة أو مع القيود التي يفرضها "قانون قيصر"، الذي أقره الكونجرس لحماية المدنيين في سوريا، والذي دخل حيز التنفيذ في عام 2020. وتعد سلسلة المقاربات، التي اعتمدها حلفاء الولايات المتحدة من الخليج العربي، أحد المقاييس الجيدة لتقييم سياسة الولايات المتحدة في سوريا.

وبدرجات متفاوتة، كانت دول الخليج  قلقة من تدخل إيران ونفوذها في سوريا، كما شعرت بعض دول الخليج مثل الإمارات باللق من تدخلات تركيا. وفي الأعوام الأولى من الصراع، أدانت دول الخليج عنف "الأسد"، وحثت على تغيير النظام ودعم جماعات المعارضة المسلحة. ومع استعادة "الأسد" السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد (بمساعدة روسية وإيرانية) وتوجيهه ضربات حاسمة للمعارضة المسلحة، تغيرت تلك السياسات.

وكانت بعض دول الخليج تتجه نحو تطبيع العلاقات مع النظام السوري. وفي أواخر عام 2018، أعادت الإمارات فتح سفارتها في دمشق، وأصدرت البحرين بيانا بعد أيام قليلة أوضحت فيه أن سفارتها مفتوحة وتجري أعمالها بشكل طبيعي. وفي مارس/آذار 2020، ناقش ولي عهد أبوظبي "محمد بن زايد" و"الأسد" جائحة فيروس "كورونا" عبر الهاتف، في أول اتصال مباشر من قبل زعيم عربي برئيس النظام السوري منذ بدء الثورة. ومؤخرا، انضمت الإمارات إلى مصر في مارس/آذار في الدعوة لعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، بعد تعليق عضويتها لمدة 10 أعوام.

وتشكلت وجهة نظر عُمان بشأن سوريا من خلال سياستها طويلة الأمد المتمثلة في عدم التدخل في الشؤون الإقليمية. ولم تغلق عُمان أبدا سفارتها في دمشق، وكانت أول دولة خليجية عربية تعيد سفيرها في أواخر عام 2020. كما ظلت عمان نشطة على المستوى الدبلوماسي رفيع المستوى طوال الصراع، فأرسلت وزير خارجيتها إلى دمشق لمقابلة "الأسد" مرتين، واستضافته في زيارتين، كان آخرها في مارس/آذار الماضي.

وكانت قطر أول دولة خليجية عربية تغلق سفارتها في دمشق عام 2011، ثم احتضنت بعد ذلك مجموعة متنوعة من قوى المعارضة التي قدمت لها الدعم العسكري والمالي. ومؤخرا، قدمت قطر الدعم لجهود تركيا في سوريا وقلصت الدعم العسكري للمسلحين، واعتبرت المحادثات القطرية التركية الروسية بمثابة طريق إلى الأمام. وتواصل قطر، مثل تركيا والسعودية، دعم مختلف أطياف المعارضة السياسية السورية.

واتخذت الكويت نهج الانتظار والترقب بشأن إعادة التواصل مع "الأسد"، حيث أشار كبار المسؤولين إلى أنها ستنتظر الضوء الأخضر من جامعة الدول العربية لإعادة فتح سفارتها في دمشق.
وسيكون دور حلفاء الولايات المتحدة من دول الخليج العربي حاسما، في الوقت المناسب، في المساعدة في تمويل ما يحتمل أن يكون تكاليف مرتفعة للغاية في إعادة إعمار سوريا.

ونظرا لأن فريق "بايدن" يتطلع إلى إعادة تنظيم السياسة التي ورثها تجاه سوريا، فسوف يحتاج إلى تقييم نفوذه بينما يحاول صياغة أهداف قابلة للتحقيق. وإذا كانت الإدارة الأمريكية تفكر في الإبقاء على المسار الحالي بشكل ما (على فرض أن لديه النفوذ اللازم)  فينبغي أن تأخذ في اعتبارها فتور دعم دول الخليج العربية وعواصم عربية أخرى لهذا النهج.

ويبدو أن قادة الخليج مرهقون من 10 أعوام من التعامل مع الصراع وقد قدروا أن "الأسد" من المرجح أن يظل محتفظا بالسلطة لأعوام قادمة. وينظر هؤلاء القادة إلى سوريا باعتبارها خطرا محتملا إذا كان "الأسد" غير قادر على إعادة بسط سيطرته على الدولة الفاشلة، كما يرون "الأسد" كتهديد إذا أعاد تشكيل سلطته دون دعمهم.

وفي أحسن الأحوال، لن يكون لدى قادة الخليج الحماس الكافي لدعم سياسة تعزز نهج الإدارة السابقة. ولا يعني هذا أنه لا يمكن اتباع مثل هذا النهج، فمن خلال اتباع الدبلوماسية القوية، المدعومة بتأثير العقوبات الأمريكية القسرية، والمقترنة بالتنسيق مع الدول الأوروبية الرئيسية، التي دعمت سياسات إدارة" ترامب" بشأن سوريا، يمكن للفريق الجديد المضي قدمًا من خلال الاسترشاد بالسياسة السابقة كدليل.

لكن نهج السياسة الواقعية لقادة الخليج وغيرهم من العرب يسلط الضوء على صعوبة أخرى في صياغة سياسة قابلة للتطبيق بشأن سوريا تعكس التوازن الصحيح بين المصالح والقيم الأمريكية.