الجمعة 11 تشرين الأول 2024

قيس سعيد يطيح بمكسب التونسيين الوحيد بعد الثورة، فهل قدم لهم شيئاً في المقابل؟

النهار الاخباريه وكالات
عندما تعرضت الديمقراطية في تونس لأزمة قبل سنوات، تدخلت قوى المجتمع المدني لمنع انهيار التجربة الديمقراطية في البلاد، ولكن اليوم تبدو هذه القوة عاجزة أو غير راغبة في حماية الديمقراطية ضد توغل الرئيس قيس سعيد.
في عام 2015، عندما انزلقت تونس في أزمة سياسية- حيث تفكُّك ديمقراطيتها الوليدة وسط جمودٍ سياسي واغتيالات واضطرابات جماهيرية- أصبح على عاتق الأوصياء التقليديين في البلاد أن يجدوا طريقاً للمضي قدماً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية. 
إذ تدخَّل تحالف من النقابات والمحامين والنشطاء الحقوقيين للحفاظ على النظام الدستوري، وفاز بجائزة نوبل للسلام لعام 2015. عزت لجنة نوبل الفضل إلى ما عُرِفَ باللجنة الرباعية للحوار الوطني في حماية مكاسب ثورة الياسمين 2011، التي أطاحت بالديكتاتور القديم في البلاد وأشعلت انتفاضات الربيع العربي في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
وتألفت اللجنة الرباعية للحوار الوطني من أربع منظمات هي: الاتحاد العام التونسي للشغل، الاتحاد التونسي للصناعة والحرف والصناعات اليدوية، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، ونقابة المحامين التونسيين.
ولكن هذه المرة تبدو قوى المجتمع المدني وبالأخص الاتحاد العام التونسي للشغل جزءاً من المشكلة، وليس الحل.
قصة الديمقراطية في تونس من الأمل إلى الفشل
لعقد من الزمان، كانت تونس قصة النجاح التي أرادها الكثيرون في العالم. بينما تلاشت ثورات عربية أخرى في الحروب الأهلية أو الانقلابات أو حملات القمع، نجت الديمقراطية في تونس البلد العربي-ذي الـ12 مليون نسمة والواقع في شمال إفريقيا على ساحل المتوسط- من الأزمة السياسية في 2013-2014 واستمرت في التقدم.
لكن الدستور الجديد والعديد من الانتخابات الحرة والنزيهة فشلت في توفير الخبز والوظائف والكرامة التي هتف بها التونسيون، وتندفع البلاد الآن نحو كارثة، واقتصادها منهك بسبب سوء الإدارة والجائحة والهجوم الروسي على أوكرانيا. 
وقوى المجتمع المدني لم تتصدَّ لانقلاب سعيد على الديمقراطية في تونس
في 25 يوليو/تموز، أقال الرئيس قيس سعيد رئيس وزرائه وعلَّق البرلمان، ومنذ ذلك الوقت عزَّز سعيد حكم الرجل الواحد. حيث ألغى الدستور والسلطة التشريعية واستقلال القضاء والنظام الانتخابي في تونس. ومع ذلك، فإن تلك الجماعات التي قادت البلاد إلى الخروج من الأزمة السياسية الكبيرة الأخيرة لم تفعل شيئاً أكثر من إصدار بضع ملاحظات تحذيرية صامتة. 
وقالت مونيكا ماركس، أستاذة سياسة الشرق الأوسط في جامعة نيويورك في أبوظبي والمتخصصة في الشأن التونسي: "في يوليو/تموز، قال الكثير من التونسيين: الديكتاتورية غير ممكنة هنا، فالمجتمع المدني حيوي للغاية". وأضافت: "لكن تراجع الديمقراطية حدث بسرعة كبيرة". 
وقالت: "ليس الأمر أن الديمقراطية في تونس مهددة. لقد أُصيبَت في رأسها. فلماذا لا يفعلون أي شيء الآن؟". 
يكمن جزء من الإجابة في السمعة السامة التي اكتسبتها الديمقراطية الفتية في البلاد بين العديد من التونسيين- ليس فقط أولئك الذين يرون أن حياتهم ليست أفضل مما كانت قبل الثورة، ولكن أيضاً النشطاء والصحفيين وأعضاء المجتمع المدني الآخرين الذين ازدهروا بعد الانتفاضة. 
فلقد أصبح أعضاء البرلمان والأحزاب السياسية الذين لم يقدموا إلا القليل من الإجابات عن مشكلات تونس يُنظَر إليهم على أنهم فاسدون وغير فاعلين، مثل حزب النهضة الإسلامي، الحزب الإسلامي الذي هيمن على المجلس التشريعي في حقبة ما بعد الثورة. وبدا القضاة، رغم افتراض استقلالهم ، مدينين بالفضل للسياسيين الذين رشحوهم. 
رجال الأعمال الموالون لزين العابدين يسيطرون على الإعلام والاقتصاد
كانت وسائل الإعلام، رغم كونها حرة، مملوكة في الغالب لرجال الأعمال المرتبطين بنظام زين العابدين بن علي، الديكتاتور المخلوع في عام 2011.
بينما استمرت حفنة من الأوليغارشيين في السيطرة على جزءٍ كبير من الاقتصاد، أعاق الفساد والبيروقراطية سبل عيش التونسيين الآخرين. 
بعد استيلاء سعيد على السلطة في 25 يوليو/تموز، أضاءت الاحتفالات العفوية العاصمة تونس في الضواحي الثرية والأحياء الفقيرة على حد سواء. رأى التونسيون من خلفيات عديدة في سعيد منقذاً محتملاً.
النشطاء سعوا للشراكة مع قيس سعيد
وسعى نشطاء حقوقيون للمشاركة مع الرئيس في الإصلاحات. رآه المحامون كزعيم لديه الشجاعة لتصويب القضاء. واعتقد رجال الأعمال أن لديه رأس المال السياسي لإعادة هيكلة الاقتصاد. 
ولكن بحلول 22 سبتمبر/أيلول، عندما بدأ سعيد الحكم بمرسومٍ أصدره بنفسه، سرعان ما تبخرت تلك الآمال. 
في حملته لإعادة تشكيل النظام السياسي في تونس، قام سعيد بتفكيك أهم مؤسسات ما بعد الثورة. بعد أن رفض البرلمان المنتخب أفعاله في جلسة افتراضية الشهر الماضي، أبريل/نيسان، قام ببساطة بحله. 
قبل الاستفتاء المقرر في يوليو/تموز، عندما سيحاول سعيد الحصول على الموافقة على إعادة كتابة دستور 2014 وتعزيز رئاسته، أعلن الشهر الماضي أنه سيستبدل معظم أعضاء السلطة الانتخابية المستقلة ويعيِّن الجدد بنفسه. 
هذا الأسبوع، هدد بحل الأحزاب السياسية بالكامل، مما أثار بعض أشد الانتقادات حتى الآن من قبل هيئات الرقابة المدنية والمعارضة.
والآن الحكومة غير قادرة على دفع الرواتب أو توفير الخبز
وسط كل هذه الاضطرابات السياسية، أصبحت الحكومة غير قادرة بشكل متزايد على دفع رواتب موظفي القطاع العام. توقفت المفاوضات بشأن خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي، والتي لن تكون أكثر من مجرد فجوة مؤقتة. أدى نقص المواد الغذائية الأساسية مثل الدقيق، ذلك النقص الذي تفاقم بسبب الحرب في أوكرانيا- البلد الذي يزوِّد تونس بالكثير من القمح- إلى دفع الأسعار إلى ما هو أبعد مما يستطيع الكثير من المواطنين تحمله. 
ارتفعت الأسعار في المخابز، وأصبح رغيف الخبز أصغر، وتصطف الطوابير عليه بشكلٍ يومي. وأعلنت الحكومة مؤخراً أنها سترفع أسعار الوقود للمرة الثالثة هذا العام.
تظهر استطلاعات الرأي أن الرئيس يخسر التأييد، رغم أنه لا يزال حتى الآن أكثر زعيم موثوق به في تونس. كان هذا الشتاء هو الأول منذ سنوات لم تضطرب فيها الاحتجاجات الجماهيرية البلاد. 
والتونسيون فقدوا المكسب الوحيد من الثورة
يتأرجح التونسيون بين ما يرون أنه شرَّان. ويشير التونسيون عموماً إلى مكسب واحد فقط من الثورة: حرية التعبير. لكن هذا أيضاً مهدد الآن. 
ابتعدت البلاد كثيراً الآن عن سنوات الديكتاتورية السابقة، عندما كان الناس يخشون التحدث في السياسة حتى مع الأصدقاء وعندما كان مكتبٌ حكومي يملي على الصحفيين ما يكتبونه. 
لكن بعد ما فعله قيس سعيد اختفت أصوات المعارضة تقريباً من التلفزيون الحكومي. قال فاهم بوقدوس المدير التنفيذي لنقابة الصحفيين إن الصحفيين التونسيين يمارسون الرقابة الذاتية؛ إذ يهاجم سعيد وسائل الإعلام الإخبارية في خطاباته.
تحولت الحكومة بشكل متزايد إلى المحاكم العسكرية لمقاضاة المشرعين وآخرين لانتقادهم الرئيس، مما أدى إلى تضاعف عدد المحاكمات منذ 25 يوليو/تموز مقارنة بالعقد السابق بأكمله.
يقع القضاة أيضاً تحت نفوذ الرئاسة، إذ يستبدل سعيد أعضاء هيئة الرقابة القضائية المستقلة سابقاً ويضع بدلاً منهم أشخاصاً يعيِّنهم بنفسه. 
هل يكسر الاتحاد العام للشغل الجمود الحالي؟
قال العديد من التونسيين إنهم يتوقعون كسر الجمود من قبل الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو الاتحاد العمالي العام الذي ساعد تونس على الاستقلال عن فرنسا عام 1956 وقاد لجنة الحوار الوطني الحائزة على جائزة نوبل، وهو الحوار الذي حافظ على النظام الدستوري خلال الأزمة السياسية 2013-2014. 
مع أكثر من مليون عضو، يمكن للاتحاد بمفرده أن يشل البلاد من خلال الإضرابات. 
لكن المحللين والنشطاء يقولون إن الرأي العام منع الاتحاد التونسي للشغل وجماعات المجتمع المدني الرائدة الأخرى من معارضة سعيد بقوةٍ أكبر. 
كان الاتحاد يأمل في البداية، مع تردده في مواجهة رئيسٍ يتمتع بشعبية، في التأثير على مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي، الأمر الذي سيتطلب على الأرجح من تونس تجميد الأجور العامة واتخاذ إجراءات أخرى مؤلمة لأعضاء الاتحاد.
رغم أن الاتحاد أصبح أكثر صرامةً مع الرئيس، فهو يحافظ على ما سماه كبير اقتصادييه سامي العوادي "موقف الدعم النقدي". 
وقال عوادي لقد قرر الاتحاد دفع السيد سعيد نحو محادثات لحل الأزمة السياسية. لكن الحوار الذي يدور في خلد الاتحاد يبدو بعيداً عن المناقشات الشاملة لعام 2013، إذ يقول العوادي إنه يجب استبعاد النهضة، مردداً لازمة شائعة تحمّل الحزب الإسلامي في الغالب المسؤولية عن تدمير الاقتصاد من خلال الفساد وسوء الإدارة، علماً بأن حزب النهضة لم يقد أغلب الحكومات التي حكمت البلاد منذ الثورة التونسية.
يقول زعماء معارضة آخرون إن تجاهل أكبر حزب سياسي في البلاد من شأنه أن يحرم الجمهور التونسي الإسلامي الكبير من حقوقه.
أحمد نجيب الشابي، زعيم معارض علماني، يتطلع إلى بناء تحالف مناهض لسعيد.
قال: "أحاول إيجاد أرضية مشتركة مع النهضة لأننا يجب أن نتطلع إلى الأمام وليس إلى الوراء".
وقال إنه في النهاية سيضطر التونسيون على الأرجح إلى قبول مشاركة النهضة في أي نوع من الحل السياسي.
وتوقع أنه إذا كانت الكارثة الاقتصادية تلوح في الأفق "فلن يكون أمام الناس الكثير من الخيارات".